كأس العالم | فضاء لوعي الهويّة

علم فلسطين وسط احتفالات المنتخب المغربيّ بعد الفوز على إسبانيا في «كأس العالم فيفا قطر 2022» | AFP

 

على الرغم من المواقف المعياريّة السائدة عن كرة القدم، والطرح الأخلاقيّ الّذي يستهجن فكرة إفراد مساحة للاهتمام بها، في ظلّ القضايا السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة الراهنة في عالمنا العربيّ، إلّا أنّ قدرتها على التعبئة الجماهيريّة، وما يرافقها من سلوكيّات وفعاليّات جمعيّة أضافت معاني إنسانيّة، وحقوقيّة، واجتماعيّة، وسياسيّة، بما يتجاوز الأبعاد الرياضيّة، ويتخطّى فكرة أنّ كرة القدم مجرّد لعبة ونشاط ترفيهيّ، يفرض علينا أهمّيّة قراءة الحدث الكرويّ «كأس العالم فيفا قطر 2022» من منظور مغاير. كما أنّ ما كان لهذه الرياضة من دور في خلق مساحة للشعوب العربيّة، من شأنها أن تمكّنهم من تأطير هويّتهم وإبرازها، إضافة إلى إعادة صياغة العلاقة بالآخر الغربيّ، هو أمر يستحقّ الدراسة، على اعتبار أنّنا "في عالم اليوم، نتمتّع بفرص غير مسبوقة لنصنّع أنفسنا ونشكّل هويّاتنا المتميّزة. إنّ مواردنا تكمن في أعماق نفوسنا لتعريف أنفسنا، ولتحديد من أين أتينا وإلى أين سنتوجّه"[1].

 

في سوسيولوجيا المونديال

تشكّل كرة القدم ظاهرة اجتماعيّة كلّيّة، في فضائها يتشابك التاريخ والسياسة والاقتصاد والثقافة بالرياضة. هي نشاط اجتماعيّ، يفرد مساحات لمعاني التضامن، والوجود، والاعتراف الاجتماعيّ الّذي تتجلّى أهمّيّته في أنّه مبدأ يرسّخ لضرورة فهم الآخر واحترام كينونته وخصوصيّته الثقافيّة؛ فإنّ بعض ما نراه في المجتمعات من صراعات ونزاعات وإقصاء، هو حصيلة عدم الاعتراف بجميع الذوات داخل السياق الاجتماعيّ، ونكران هويّتها، على اعتبار أنّ الهويّة تقع في التكوين الثقافيّ والبنى الاجتماعيّة والثقافيّة الّتي تولّدها السلوكيّات والتفاعلات الاجتماعيّة المتبادلة، فإنّ تهميشها بناءً على معايير اصطفائيّة وخطابات فوقيّة هو ما يحيل إلى التعامل مع كلّ أوجه التعداد الهويّاتيّ، من  باب التفاضل أو الهرميّة أو الهيمنة، وهو ما أنتج في مخيال الشعوب تصوّر المركزيّة للغرب، والهامشيّة للشرق.

في فضاء الحدث الكرويّ، الّذي يضمّ أفرادًا وجماعات من خلفيّات اجتماعيّة عدّة (...) تغيب التصنيفات المعياريّة والتقسيمات التراتبيّة للجمهور؛ فلا مركزيّة لعرق أو لون أو طائفة، أو هويّة، أو طبقة أو دين أو جنس...

تتيح هذه الرياضة فرصة للتعويض عن التوزيع اللامتكافئ لموازين القوى الدوليّة، وما تنتجه من ممارسات عنصريّة وهيمنة؛ ففي فضاء الحدث الكرويّ، الّذي يضمّ أفرادًا وجماعات من خلفيّات اجتماعيّة عدّة، وبقدرته التعبويّة، تغيب التصنيفات المعياريّة والتقسيمات التراتبيّة للجمهور؛ فلا مركزيّة لعرق أو لون أو طائفة، أو هويّة، أو طبقة أو دين أو جنس. ولا هرم اجتماعيّ قاعدته عربيّ وقمّته غربيّ، فلا فضل لرجل أبيض على الآخر. وإن كان هذا الشكل من التجمهر مؤقّتًا، إلّا أنّه قادر على أن يشكّل ميدانًا إنسانيًّا مشتركًا رغم اختلاف الجغرافيا، تبرز أهمّيّته لدى الجماهير بقدرته على منحهم إطارًا نفسيًّا واجتماعيًّا يمكّنهم من القدرة على التعبير عن ولاءاتهم غير خاضعة إلّا لإرادتهم الحرّة، وإيصال مواقفهم من قضايا اجتماعيّة وسياسيّة مختلفة، دون حرمان في سياق سياسة أو قانون.

إنّ السلوك التشجيعيّ، ذا الحمولة الاجتماعيّة والسياسيّة الكامنة في رمزيّة مضامين أشكاله المختلفة، يمكّننا من القول بأنّ هذه المنظومة الكرويّة شكّلت آليّة للتعبير عن قيم الانتماء والهويّة المشتركة؛ "إذ تؤدّي الرياضة الدوليّة الحديثة دور الساحة، حيث تتواءم الولاءات الوطنيّة بين مكوّنات الشعب الواحد"[2]، فقد شاهدنا في ميدان كلّ حضور جماهيريّ، من الشعارات والهتافات وممارسات التشجيع على اختلافها، من اللباس إلى الأعلام فالاحتفال والأهازيج، ما يبرز مدى وعي الجماهير بأهمّيّة التماسك الوطنيّ وإدراكهم بأنّ منتخبهم الرياضيّ هو التجسيد المادّيّ للوطن في هذه الرقعة الجغرافيّة، وأمام جماهير الدول الأخرى، لا سيّما أنّنا أمام نسخة استثنائيّة، تجاوزت المركزيّة الكرويّة الغربيّة للمونديال، لتكون أوّل تنظيم ليس قطريًّا فقط، بل عربيًّا، شرقًا أوسطيًّا.

 

إعادة إنتاج الهويّة 

في دائرة أوسع، أفرد هذا الحدث الكرويّ للجماعات العربيّة المتخيّلة مساحة لتعيد إنتاج هويّتها القوميّة، وتبرزها مرجعيّةً تحقّق لهم الاعتراف والمكانة الاجتماعيّة؛ فحضرت الهويّة العربيّة القوميّة ببناها الرمزيّة والثقافيّة، ضمن الكثير من الفعاليّات الجمعيّة وممارسات المشجّعين العرب، "بفضل قدرتنا بوصفنا بشرًا واعين لأنفسنا ومدركين لقدراتنا فإنّنا نخلق هويّاتنا، ونعيد خلقها على الدوام"[3]. هذا ما خلق حالة من التضامن الاجتماعيّ، عزّزت الانتماء إلى الهويّة العربيّة المشتركة، وأنتجت ولاءات جمعيّة تعاضديّة كشفت "أنّ كلًّا منّا باستطاعته أن يغيّر بين يوم وآخر موقعه داخل دوائر متمركزة، فيخرج من إحداها ليقتحم أخرى، وهو الأمر الّذي يجعلني أنتصر للفريق العربيّ على الفريق الأفريقيّ اليوم، لكنّني سأجد نفسي مع الفريق الأفريقيّ غدًا ضدّ بلد أوروبّيّ، بل مع البلد الأوروبّيّ مرّة أخرى ضدّ بلد أوروبّيّ آخر"[4].

أفرد هذا الحدث الكرويّ للجماعات العربيّة المتخيّلة مساحة لتعيد إنتاج هويّتها القوميّة، وتبرزها مرجعيّةً تحقّق لهم الاعتراف والمكانة الاجتماعيّة؛ فحضرت الهويّة العربيّة القوميّة ببناها الرمزيّة والثقافيّة...

هذا ما شهدناه في دوري المجموعات، بحضور المساندة الجماهيريّة للمنتخبات العربيّة في مواجهاتها مع الفرق الأخرى، من تراجع للتفضيلات أو الولاءات الفرديّة عندما يكون أحد طرفَي اللعبة منتخبًا عربيًّا، وفي حالتَي الفرح والفخر لتفوّقه غير المألوف على رقعة الملعب، حين حقّق منتخب السعوديّة الفوز على الأرجنتين، وتونس على فرنسا، والمغرب على بلجيكا وكندا وإسبانيا، وتأهّلها للنصف النهائيّ بعد الفوز المستحقّ على منتخب البرتغال؛ لتكون أوّل منتخب عربيّ يصل إلى رباعيّة المربّع الذهبيّ في تاريخ البطولة، ممّا يجعلني أستحضر قول محمود درويش في كتابه «ذاكرة النسيان»: "لعلّ المشاهدين هم أشدّ اللاعبين اندفاعًا؛ لأنّهم يدفعون بتاريخهم النفسيّ وتأويلاتهم ورغباتهم في التعويض إلى الملعب؛ لرفع اللعبة إلى مستوى التعبير التمثيليّ المتخيّل عن روح الأمّة، وحاجتها إلى التفوّق على الآخر. هي الوطنيّة المتفجّرة. شرارة الإفصاح عن الباطن في علاقته بالآخر". عليه، تجسّدت أهمّيّة الانتصارات الكرويّة للمنتخبات العربيّة في أنّها أخرجتنا من روتين الحزن والفرح الجمعيّ الغائب، وبيّنت حقيقة علاقة الشعوب العربيّة ببعضها بعيدًا عن الاختلافات السياسيّة، كما أنّها خلقت ذاكرة جمعيّة جسّدت مشاعر القدرة على التفوّق على الآخر، ونزع الاعتراف منه.

 

المونديال فضاء للتضامن

تكثر الخطابات حول ضرورة فصل السياسة عن الرياضة، إلّا أنّها على أرض الواقع مبدأ غير قابل للتطبيق، سواء اتّفقنا معه أو لم نتّفق، فتحضر القضايا السياسيّة في جميع الحقول والميادين الرياضيّة. من منطلق وعي الشعوب العربيّة، ورفضها لأيّة ازدواجيّة في المعايير، وإيمانًا بأنّ القضيّة الفلسطينيّة هي البوصلة والقضيّة المركزيّة للشعوب العربيّة، ولكلّ من يؤمن بعدالتها وشرعيّتها، انطلقت حملات تهدف إلى إعادة الوعي بها وتوضيح حقيقتها، وتأكيد مركزيّتها وأهمّيّتها، إلى جانب كلّ القضايا الإنسانيّة والاجتماعيّة والسياسيّة الّتي يتضامن معها الغرب في المحافل الرياضيّة.

اتّخذت جماهير الشعوب العربيّة من الهويّة الاجتماعيّة المشتركة مرتكزًا لنشاطهم أو توجّههم أو حركتهم الاجتماعيّة المتمثّلة في دعم القضيّة الفلسطينيّة، باعتبارها قضيّة تعرّف الهويّة العربيّة، وليست مجرّد شأن إنسانيّ أو خصوصيّة فلسطينيّة؛ فلاقت الحملات الداعمة تفاعلًا كبيرًا، سواء في الساحات القطريّة أو الساحات الرقميّة في العالم الافتراضيّ، حتّى نجحت في تحقيق أهدافها ومضامينها على أرض الواقع، حيث شاهدنا حضور العلم الفلسطينيّ في احتفالات الفوز والتأهّل، وفعاليّات الجاليات العربيّة في قطر في الشوارع والأسواق، وفوق البيوت، ومن نوافذ السيّارات، وخلف كاميرا إعلام الاستعمار الإسرائيليّ، وفي قلب المدرّجات القطريّة إلى جانب لوحات ويافطات تناصر القضيّة الفلسطينيّة؛ فكانت الرمزيّة الّتي عبّرت عن التضامن المطلق مع القضيّة الفلسطينيّة. بهذا، أصبحت بطولة كرة القدم كما شبّهها محمود درويش، بمنزلة "فسحة تنفّس تتيح للوطن المتفتّت أن يلتئم حول مشترك ما، حول إجماع ما، حول شيء ما، ضبط فيه حدود الأطراف وشروط العلاقة، مهما سرّبت منها إيماءات ذكيّة، ومهما أسقط فيها المشاهد على اللعبة ما فيه من المعاني المضغوطة. وطن، أو شكل من روح الوطن يدافع عن كرامته، أو فوقه، أمام الآخر".

اتّخذت جماهير الشعوب العربيّة من الهويّة الاجتماعيّة المشتركة مرتكزًا لنشاطهم أو توجّههم أو حركتهم الاجتماعيّة المتمثّلة في دعم القضيّة الفلسطينيّة، باعتبارها قضيّة تعرّف الهويّة العربيّة...

أضف إلى ما سبق، أنّ حضور الطواقم الصحافيّة الإسرائيليّة للمشاركة في تغطية هذا الحدث العالميّ، أتاح الفرصة لظهور تضامن من نوع جديد، أو لخلق مساحة للشعوب العربيّة لتعبّر عن موقفهم من دولة الاستعمار الإسرائيليّ، بما يفصل بينهم وبين مواقف بعض الحكومات العربيّة وعلاقتها بالتطبيع. وعليه، برزت أهمّيّة الوجود الفلسطينيّ، في محفل رياضيّ يقام على أرض عربيّة، في قدرته على تحويل الكثير من مشاهد هذا المونديال إلى استفتاء شعبيّ للدول العربيّة على امتدادها، من المحيط إلى الخليج، يدحض كثيرًا من ’البروباغندا‘ الّتي روّجتها بعض وسائل الإعلام حول المواقف العربيّة من التطبيع.

كان هذا الاستفتاء المرئيّ بمنزلة تأكيد لنتائج المؤشّر العربيّ الصادر عن «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات»، الّتي أكّدت عبر دوراتها المتتالية أنّ اتّجاهات الرأي العامّ العربيّ نحو اعتراف بلدانهم بـ ’إسرائيل‘، في استطلاعات المؤشّر منذ عام2011  حتّى 2020، كانت فيها نسبة المعارضة على الاعتراف تتراوح بين84% - 88%) ). وحسب تقارير «المؤشّر العربيّ» وبياناته لعام 2019-2020، فإنّ رفض 88% من المستجيبين لتطبيع العلاقات مع ’إسرائيل‘، هي من استطلاع شارك فيه 28 ألف مستجيب من 13 بلدًا من المشرق والمغرب والخليج العربيّ ووادي النيل، ممّا يعني أنّها نتيجة ممثّلة بالتأكيد. إضافة إلى أنّ ذات الاستطلاع بيّن أنّ 79% من المستجيبين متوافقون على أنّ القضيّة الفلسطينيّة هي قضيّة جميع العرب، وليست للفلسطينيّين وحدهم.

 


إحالات

[1] أنتوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة وتقديم: فايز الصبّاغ (بيروت: المنظّمة العربيّة للترجمة، مؤسّسة ترجمان، مركز دراسات - الوحدة العربيّة، 2005)، ط4، ص 91.

[2] محمّد السيّد حجر، "كيف أصبحت الرياضة هويّة قوميّة؟"، موقع ثمَانية، تاريخ النشر: 15/07/2021، تاريخ الدخول: 9/12/2022 ، عبر: https://thmanyah.com/14221/.

[3] غدنز، مرجع سابق، ص91-92.

[4] عبد السلام بن عبد العالي، "فرقنا الكرويّة ... أوطاننا الجديدة"، موقع الفيصل، تاريخ النشر: 1/05/2018  ، تاريخ الدخول: 9/12/2022 ، عبر:   https://www.alfaisalmag.com/?p=10112.

 


 

إيمان بديوي 

 

 

 

كاتبة أردنيّة، دَرَسَتْ الماجستير في «علم الاجتماع» من «معهد الدوحة للدراسات العليا»، مهتمّة بالقراءة السوسيولوجيّة للقضايا المجتمعيّة الراهنة.